دراسات إسلامية

 

 

إقامة حدود الله وعلاقتها مع سعة الرزق

 

 

               بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)

 

 

 

 

     لقد اعتنى الإسلام بإصلاح نفس الإنسان، وبإعمار قلبه بخشية الله، وبأن ينشأ فيه الميل إلى طاعة الله ورسوله، وعمل ما أمرنا الله به والبعد عما حرمه علينا، لما في ذلك من صلاح الدين والدنيا، ولما في ارتكاب الأفعال المحرمة من أضرار بالفرد والمجتمع، كما أن الإسلام بنظامه المتكامل سد منافذ ارتكاب أي من المحرمات، ويسر سبل الابتعاد عنها، وعندما تفشل كافه الروادع في منع الفرد من تجاوز حده يلجأ الإسلام إلى العقوبة(1).

     وتقسم العقوبات من حيث وجوب الحكم بها إلى:

     أ عقوبات مقدرة: وهي العقوبات التي حدد الشارع نوعها ومقدارها، وهي عقوبات الحدود والقصاص والدية.

     ب عقوبات غير مقدرة: وهي العقوبات التي تُرِكَ للقاضي تحديد نوعها ومقدارها، وهي عقوبات التعازير(2).

     وما يهمنا منها في موضوعنا هذا هو علاقة إقامة الحد بسعة الرزق، وتبدو هذه العلاقة في النقط التالية:

     أولاً: إذا أقيمت الحدود، ظهرت الطاعة لله، ونقصت المعصية، فحصل الرزق والنصر، هذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو، كما يدل عليه الكتاب والسنة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام ترغيباً في إقامة الحدود (حدٌّ يُعْمَلُ به في الأرض خيرٌ لأهل الأرض من أن يُمْطَرُوا أربعين صباحاً) رواه النسائي(3).

     ثانياً: شدة العقوبة عامل زجر ومنع عن ارتكاب أو تكرار الجريمة، والمجتمعُ الذي تقل فيه الجريمةُ أو تنعدم يتفرغ للتنمية والنهضة. وتختلف العقوبات في الشريعة الإسلامية باختلاف الجرائم، وقد وُضِعَت هذه العقوباتُ على أساس محاربة الدوافع الخاصة بكل جريمة؛ إذ أن هذا هو طريق الشريعة في اختيار نوع العقاب وكميته، فالدوافع التي تدعو إلى الجريمة، تُحَارَب بالدوافع التي تصرف عنها، فالجريمة التي تدفع إليها اللذةُ والشهوةُ تُعَاقَب بعقوبة تتصف بالألم، ولا يمكن أن يستمتع الإنسان بنشوة اللذة، إذا تذوق مسَّ العذاب، أو توقع أنه سيذوقه، ولذا يتكون لديه ما يبعده عن التفكير في اقتراف الجريمة، وبهذا تكون الشريعة قد حاربت الجريمةَ في النفس، قبل أن تحاربها في الحسّ، وعالجتها بالعلاج الوحيد الذي لاينفع غيره، فالزنا في الشريعة الإسلامية له ثلاث عقوبات هي الجلد والتغريب والرجم. الجلد والتغريب هما عقوبة الزاني غير المحصن، أما الرجم فهو عقوبة الزاني المحصن. قال تعالى ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة النور آية2. ويعاقب الزاني غير المحصن بعد جلده بالتغريب عاماً. والمصدرُ التشريعي لهذه العقوبة حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم (البكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام) رواه مسلم. أما الرجم فهو عقوبة الزاني المحصن، رجلاً كان أو امرأةً، ومعنى الرجم القتلُ رمياً بالحجارة، ومن مصلحة المجتمع أن يفهم أفراده أن العقوبة تؤلم، وتدعو للخوف، وذلك للردع، وقد بلغت آيةُ الزنا الغايةَ في إبراز هذا المعنى حيث جاء بها ﴿ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله﴾ سورة النور آية 2، وحيث جاء بها أيضاً ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ سورة النور آية2. وللقذف في الشريعة عقوبتان إحداهما أصلية وهي الجلد، والثانية تبعية وهي عدم قبول شهادة القاذف، والأصل في عقوبتي القذف قول الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ سورة النور آية4. ولاتعاقب الشريعة على القذف إلا إذا كان كذباً واختلاقاً؛ فإن كان تقريرًا للواقع فلا جريمة ولا عقوبة(4). ويحد من شرب خمر أو أي مسكر ثمانين جلدة وعلى ملأ من الناس، وقد أعاد عمر بن الخطاب الحد على ابنه عمرو؛ لأنه قد شرب وهو في مصر، فجلده عمرو بن العاص والي مصر حينذاك في فناء بيته، ولم يقبل الخليفة؛ فاستقدم ابنه وأعاد عمر الحد على ابنه فمات(5). وتعاقب الشريعة على السرقة، بالقطع، لقول الله تعالى في سورة المائدة آية 38 ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ الله﴾ ومن المتفق عليه بين الفقهاء، أن لفظ أيديهما يدخل فيه اليد والرجل، فإذا سرق السارق أول مرة قطعت يده اليمنى، فإذا عاد للسرقة قطعت رجله اليسرى، وقطع اليد من مفصل الكف، وقطع الرجل من مفصل الكعب، وعقوبة القطع عقوبة إيجابية في القضاء على السرقة، فهي تردع من تُسَوِّل له نفسه بالسرقة، كما أن قطع اليد يعوق السارق على الاستمرار في مهنة السرقة، أما غير عقوبة القطع فقد فشل في محاربة جريمة السرقة، وتشهد الإحصائيات العالمية على هذا الإخفاق الذريع، كما أن الشواهد الواقعة تحت أعيننا تدل على ازدياد موجة السرقة في جميع أنحاء العالم، حتى أصبحت السرقة مهنة لم يبق لها إلا أن يُعْتَرَف بها رسميًّا كبقية المهن. وكل ذي عينين وأذنين له ذرة من العقل، يرى ويسمع أنباء السرقات الفردية والجماعية التي لها شكل العمليات المنظمة، والتي توسعت حتى أخذت الطابع الدولي؛ بل أصبح لبعضها قُوًى لا تعادلها قوة الحكومات والسلطات الرسمية، وتملك من الوسائل والإمكانيات، ما يصعب على كثير من الدول تملكها، كلُّ ذلك بسبب فشل العقوبات الوضعية بأنواعها في علاج جريمة السرقة والتي قد تقتصر على الحبس مدة معينة، يخرج السارق بعدها ليمارس نشاطه وهو بكامل الصحة والعافية(6). كما أن الإسلام شدد في عقوبة الحرابة، والحرابةُ مصدر حارب ويُعْنَى بها عملُ من يخرج على القانون عمدًا، فيسرق أو ينهب أو يعتدي على أعراض الناس، وهو بعمله قد حارب الله ورسوله، كما نصت الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ سورة المائدة آية 33 وتُسَمَّىٰ أيضاً قطعَ الطريق، لأنها تخيف طريق الناس، وتجعلهم ينقطعون عن المشي فيه، وفي الآية الكريمة كما هو واضح أربعة أنواع من العقوبات هي القتل والصلب وهو قتل يجمع إزهاق الروح وتعذيب الجسد، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والنفي من الأرض أي أن يُخْرَجُوا من البلد الذي هم فيه إلى بلد آخر، فيسلمون لحاكم يجعلهم تحت رقابته، ويعلم الناس بحالهم، وبذلك تضعف قواهم وتوهن شوكتهم، والسجن نفي أيضاً وهو الذي اختاره أبو حنيفة في تفسير النفي هنا، وهذه العقوبات متروكة للحاكم، يختار منها ما يراه رادعاً، وتسقط كل هذه العقوبات إذا تاب قاطع الطريق وأعلن توبته قبل أن يقبض عليه، وذلك عملاً بالآية ﴿إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ سورة المائدة آية 34 ولا يترتب على سقوط هذه العقوبة سقوط حقّ الآدميين المعتدى عليهم، فيرد المال الذي نهب، ويتحمل أرش الجرح. أما القتل فلا تسقط عقوبته؛ ولكن يختلف وضع الجاني أمامها فهو في حالة عدم توبته يموت مرتدًا أو عاصياً كما جاء في الآية  ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ سورة المائدة آية 33 وفي حالة التوبة يكون القصاص كفارةً له ولا عذاب له في الآخرة(7).

     وجعل الإسلام، للردة عقوبتين أصلية وهي القتل، وتبعية وهي المصادرة، وتعاقب الشريعة المرتدَ بالقتل، والأصل في ذلك قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ سورة البقرة آية 217 وقول النبي صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) ومعنى الردة ترك الدين الإسلامي، والخروج عليه، بعد اعتناقه، فلا تكون الردة إلا من مسلم، وعقوبة الردة التبعية هي مصادرة مال المرتد، ويختلف الفقهاء في مدى المصادرة، فمذهب مالك والشافعي والرأي الراجح في مذهب أحمد أن المصادرة تشمل كل مال المرتد، ومذهب أبي حنيفة وبعض فقهاء المذهب الحنبلي أن مال المرتد الذي اكتسبه بعد الردة هو الذي يصادر، أما ماله قبل الردة فهو من حق ورثته المسلمين. كما تعاقب الشريعة على البغي بالقتل، والأصل في ذلك قوله تعالى ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله﴾ سورة الحجرات آية9 وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ستكون هنات وهنات ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا بالسيف عنقه كائناً من كان) رواه مسلم. مما سبق يتضح أن شدة العقوبة في الإسلام تقضي على بُؤَرِ الفساد، ولا تعطي له الفرصة لكي ينمو، وخاصة في تلك الجرائم التي تؤثر على استقرار وأمن المجتمع، اللذان يؤثران بدورهما على الحالة الاقتصادية، فالقتلُ عقوبة للحرابة «قطع الطريق» وللبغي وللردة، وتقطيعُ الأيدي والأرجل عقوبة السرقة، وهذه الجرائم إن لم تُعَاقَبْ عليها بهذه الشدة وترك لها العنان، لتقوّض أركان المجتمع وعم فيه الفساد والخراب، وتحوّل إلى غابة يفترس الكبير فيها الصغير، ولنهبت المتاجر والمحلات، ولسرقت الأموال واغتصبت الأراضي والعقارات والأملاك، والجلدُ عقوبة للزاني غير المحصن وللقاذف ولشارب الخمر، وكلها أيضاً جرائم تؤثر على النواحي الاجتماعية والروابط بين الناس، وبالتالي ستؤثر بطريق غير مباشر على الإنتاج.

     ثالثاً: إن بعض العقوبات على الجرائم تشمل دية أو كفارة مالية، إما تدفع لأهل المجني عليه أو للمساكين، وهذا يعتبر مصدر رزق لهؤلاء، وهذه الجرائم التي تقع تحت مسمى جرائم القصاص والدية هي: القتل العمد، القتل شبه العمد، القتل الخطأ، الجرح العمد، الجرح الخطأ. والعقوبات المقررة لهذه الجرائم هي القصاص، الدية، الكفارة، الحرمان من الميراث، الحرمان من الوصية. وقد جعلت الشريعة عقوبةَ القتل العمد والجرح العمد، القصاصَ من الجاني، ومعنى القصاص أن يُعَاقَب الجاني بمثل فعله، فيُقْتَل كما قَتَلَ، ويُجْرَح كما جَرَحَ، ومصدرُ عقوبة القصاص هو قول الله عز وجل في سورة البقرة آية 178 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى﴾ وقوله جل شأنه ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ﴾ سورة المائدة آية45 وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا فالقود وإن أحبوا فالعقل أي الدية). وقد جعلت الشريعة الدية عقوبة أصليه للقتل والجرح في شبه العمد والخطأ، ومصدرُ هذه العقوبة القرآن والسنة، فالله جل شأنه قال ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ سورة النساء آية 92، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول (ألا إن في قتل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل) والديةُ مقدار معين من المال، وهي إن كانت عقوبة، إلا أنها تدخل في مال المجني عليه، ولا تدخل في خزانة الدولة، وهي من هذه الناحية أشبه بالتعويض، وإن لم يكن للجاني أي أموال فيتحمل الدية عصبته أو بيت مال المسلمين على اختلاف الآراء. أما الكفارة فالأصل فيها قوله تعالى ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ الله﴾ سورة النساء آية 92 والكفارة عقوبة أصلية وهي عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجدها أو يجد قيمتها يتصدق بها، فعليه صيام شهرين متتابعين، فالصوم عقوبة بديلة لا تكون إلا إذا امتنع تنفيذ العقوبة الأصلية، وظاهر النص أن الكفارة شُرِعَت في القتل الخطأ، ومن المتفق عليه أنها واجبة في القتل الخطأ وكذلك في القتل شبه العمد. والكفارة عقوبة لجرائم أخرى غير القتل هي: إفساد الصوم، إفساد الإحرام، الحنث في اليمين، الوطء في الحيض، الوطء في الظهار. والكفارة الواجبة ليست واحدة في كل هذه الجرائم، بل تختلف في نوعها ومقدارها وطريقة أدائها باختلاف الجريمة. وعقوبة الكفارة قد تصحبها عقوبة مقدرة أخرى كما هو في حال القتل الخطأ فعقوبته الدية والكفارة معاً، وكلاهما عقوبة مقدرة، وقد تصحب الكفارة عقوبة غير مقدرة أي عقوبة تعزيرية كما هو الحال في الظهار. والكفارات التي فرضتها الشريعة عقوبات جنائية هي العتق والإطعام والكسوة والصيام. والعتق: المقصود به عتق رقبة أي تحرير أحد الأرقاء، فإن لم يجدها تصدق بقيمتها. الإطعام: والمقصود به إطعام المساكين، وتختلف كفارة الإطعام باختلاف الجرائم، فهي في كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، وفي إفساد الصوم إطعام ستين مسكيناً، ويُجْزِئ في الإطعام أن يكون من أوسط ما يطعم المطعم أهله. الكسوة: وهي لم ينص عليها إلا في كفارة اليمين، ولا يجزئ في الكفارة أقل من عشرة مساكين، لقوله تعالى ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ سورة المائدة آية 89. الصيام: أي صيام الجاني، والصيام لايكون إلا في حالة العجز عن الكفارات الأخرى، وتختلف مدة الصيام باختلاف الجريمة، فهو في كفارة اليمين ثلاثة أيام، وفي القتل الخطأ صوم شهرين. ومن المسلم به أن الصيام لايجوز إلا في حق المسلم؛ لأنه عبادة، كما أن الكفارات في الأصل نوع من العبادة؛ لأنها عبارة عن عتق أو إطعام مساكين أو صيام؛ ولذلك تسمى بالعقوبات التعبدية. والحرمان من الميراث عقوبة تبعية تصيب القاتل تبعاً للحكم عليه بعقوبة القتل، والأصلُ في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام (ليس للقاتل شيء من الميراث) وقد اختلف الفقهاء كثيرًا في الحرمان من الميراث. والحرمانُ من الوصية عقوبة تبعية، والأصلُ فيها قول الرسول عليه الصلاة والسلام (لا وصية لقاتل) وقوله (ليس لقاتل شيء) وكذلك اختلف الفقهاء في تفسير هذين النصين وتطبيقيهما، كما أن هناك الجزء الثاني من العقوبات وهي العقوبات غيرالمقدرة وتُرِكَ للقاضي تحديد نوعها ومقدارها، وهي عقوبات التعازير، والتعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود، أي هو عقوبة على الجرائم التي لم تضع الشريعة لها أي عقوبة مقدرة، وتبدأ بالنصح والإنذار وتوقيع غرامة مالية وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد بل قد تصل للقتل في الجرائم الخطيرة، ويُتْرَك للقاضي أن يختار من بينها العقوبة الملائمة للجريمة، ولحال المجرم ولسوابقه، ويعاقب بالتعزيز على جرائم الحدود والقصاص والدية عند امتناع العقوبة الأصلية لهذه الجرائم أو إضافة للعقوبة الأصلية لهذه الجرائم(8).

     رابعاً: إن العقوبات التي شرعها الإسلام لا تشمل عقوبة الحبس إلا في حالات ثانوية، وفي الجرائم البسيطة، وبالتالي يقل عدد المحبوسين، والحبس بوضعه الحالي يكلف البلدَ ميزانيات ضخمه ونفقات باهظة، ونجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينشئ سجناً ليؤدب فيه المنحرفين، وإنما أنشأ شيئًا آخر، وهو أن يسجن الذي جرم وهو حر في المجتمع، فهو لا يسجن المجرم؛ ولكن يسجن كل المجتمع عنه، يعيش بانطلاق حريته بين الناس وهو غريب عنهم، فيقول للناس اعزلوا هذا الذي انحرف عن مجتمعكم، فحين يصدر الرسول عليه الصلاة والسلام، حكمه بعزل المنحرف عن المجتمع، يستجيب المجتمع كله فلا مودة ولا ود ولا سلام ولا كلام مع منحرف؛ بل والأكثر من ذلك أنه يأتي إلى أهل المنحرف أي في بيته، فيأمره هو ألا يقرب أهله، وهذه هي عظمة التشريع حين يتسامى، فلا يعزل المنحرف وحده إنما يعزل عنه المجتمع، ففي غزوة تبوك، لما تخلف ثلاثة نفر، لم يسجنهم؛ ولكنه عزل الناس عنهم وهم في المجتمع بالصورة السابقة. والسجونُ بوضعها الحالي تُكَلِّف ميزانيةَ الدول الكثيرَ، وهذه الدولُ أحوجُ لهذه الأموال لتنفقها في عمل منتج أو تصرفها على الشرفاء من أبناء المجتمع، متى وجدت عقوبةً أخرى تنوب عن السجن، كالتي شرعها الإسلام. فمثلاً ارتفعت جملةُ المبالغ التي أنفقت على الأمن العام الداخلي في مصر بصورة كبيرة فاقت في نموها معدلات النمو للناتج القومي المحلي الإجمالي؛ فقد ارتفع إجمالي الإنفاق على الجهاز الأمني من 17،5 مليون جنيه عام 59/1960 إلى 107،8 مليون جنيه عام 89/1990 ولم تصاحب هذه الزيادة في الإنفاق نقص في معدل الجريمة، بل أكدت سجلات الإحصاء القضائي بوزارة العدل ارتفاع معدل الجريمة من 2840 لكل مائة ألف شخص إلى 4001 جريمة كل مائة ألف شخص عام 89/1990 وارتفعت جملة المبالغ المُنْفَقَة على التجهيزات على السجون من 685 ألف جنيه عام 69/1970 بلغت 902 ألف جنيه عام 88/1989 ومتوسط نصيب الفرد في مصر من نفقات الأمن الداخلي مُقَوَّماً بالدولار 3،7 دولار، وهي أكبر من متوسط نصيب الفرد من ذلك الإنفاق في مجموع الدول النامية(9). وقد أصبحت سجونُ مصر كاملةَ العدد؛ حيث اكتظت الزنازين والعنابر بالمساجين، وأصبح الوضع يهدد بكارثة وبائية بين المساجين، لعدم توافر الشروط الصحية. والإحصائيات تقول إن في مصر 27 سجناً محتجز بها 31 ألفاً و 538 سجيناً، والتقاريرُ تقول: إن السجون الحالية لا تتحمل أكثر من خمسة آلاف سجين، كما تؤكد التقاريرُ أن غالبية السجون المصرية انتهى عمرها الافتراضي، وأصبحت آيلة للسقوط، ولا تصلح لتطبيق النظم الحديثة لإصلاح وتهذيب المساجين، وقد طالب الخبراء بضرورة وضع حلول بديله لعقوبة السجن، فأي زيادة في أعداد المساجين يكلف ميزانية الدولة ما ليس في طاقاتها(10). كما أن الحبس يؤدي إلى إفساد المسجونين، وقد أثبت الواقع أن عقوبة السجن لم تثبت صلاحيتها إطلاقاً؛ بل إنها على العكس لها كثير من المحاذير؛ إذ ضاقت السجون بالمحابيس، وأصبحت هذه السجون مدارس للإجرام، تفسد الصالحين من المسجونين، وتنزل بهم إلى مستوى الفاسدين، فأصبحت السجون أوكارًا لتعلم الإجرام؛ حيث يجتمع فيها مرتكبو الجرائم على مختلف نزعاتهم، يتعلم بعضهم من بعض، طرق الإجرام، ويتداولون فيها دروسًا في الحيل والفرار من العقوبات، وتتواطأ بين المساجين صداقات وتتوثق عهود واتفاقيات للاستمرار في نفس نوعيه الإجرام، ورواد السجون عادةً ما يستهينون بها، ويألفون التردد عليها، فهي ليست ذات رهبة تردعهم عن الجرائم، وفي إحدى الدراسات الحديثة التي أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، ثبت أن عدد الذين عادوا للجريمة بعد خروجهم من السجن يصل إلى 42٪ من المُـفَرَّجِ عنهم، وتلك العودة تتم في السنوات الأولى التي تلي خروجهم، وكشفت الدراسة أن من أهم أسباب العودة إلى الجريمة يجئ نتيجةَ إحساسهم بالغربة الناتجة من تغيبهم فترة طويلة داخل السجن(11). مما يدفع رفقاء السجون إلى استمرار علاقتهم بعد انقضاء العقوبة مما يؤثر على عودتهم إلى الجريمة مرة أخرى، وفي السجون ذاتها ترتكب جرائم التهرب للمخدرات وجرائم أخلاقية أخرى، فقد طالعتنا العديد من الصحف، عن وجود المخدرات بين المساجين في السجون، وهناك بعض التجاوزات الأخلاقية بين المسجونين بعضهم البعض، والتي تصل في بعض الأحيان إلى المعاشرة الجنسية بين الذكور من قدامى وحداثى المسجونين، وتجاوزات أخرى تشمل التساهل مع بعض المسجونين ذوى المناصب أو الثراء فيقضون المدة كما لو كانوا في فسحة أو نزهة، كما ينجم عن الحبس تعطيل أفراد عديدين في المجتمع عن الإنتاج وإهمال عائلاتهم وتركها عرضه للعوز والفاقة والمفاسد الأخلاقية والاجتماعية، ففي خارج السجن حيث توجد أسر المسجونين وقد حرمت من رعايا عائلها المودع في السجن، فقد تنحرف أخلاقياً، فتكون عقوبة السجن بذلك عقوبة جماعية يتضرر فيها جميع أفراد أسر المحبوسين. أما العقوبات التي شرعها الإسلام للجرائم فهي عقوبات رادعة تزجر النفس عن التفكير في الجرائم كما أنها اقتصادية غير مكلفة وتصون الأسرة وأفرادها من الجرائم الأخلاقية.

*  *  *

المراجع :

(1)         الإسلام سعيد حوى ج3 ص 125.

(2)         الإسلام سعيد حوى ج3 ص 174.

(3)         مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية ج28 ص 301-302.

(4)         الإسلام سعيد حوى ج3 ص 175-180.

(5)         القانون الإسلامي في مواجهة التحديات د. عبد الجليل شلبي ص 48-49.

(6)         الإسلام سعيد حوى ج3 ص 175-180.

(7)         القانون الإسلامي في مواجهة التحديات د. عبد الجليل شلبي ص 20-23.

(8)         الإسلام سعيد حوى ج3 ص 180-190.

(9)         جريدة الشعب، العدد 575 الثلاثاء 16 جمادى الأولى عام 1411هـ الموافق 4 ديسمبر 1990.

(10)     جريدة الوفد، الخميس 20 ذو الحجة عام 1410هـ الموافق 12يوليو عام 1990م.

(11)     جريدة المعارضة، العدد (55) الأحد 8 سبتمبر عام 1991.

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان - شوال 1433هـ = يوليو - سبتمبر 2012م ، العدد : 9-10 ، السنة : 36

 



(*)     6 شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل، وابور المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.

      الهاتف : 4204166 ، فاكس : 4291451

      الجوّال : 0101284614

        Email: ashmon59@yahoo.com